فلا تزال المقامات تذكرنا بأصوات هادئة عابرة. أما الكلمات فهمست مجتمعة على صفحات الزمان، وانتظروا جولة استثنائية لتروضها الألحان وتأخذ بها إلى أعمق المشارب. كان ذلك هو صوت مسافر، قادم من بعيد، يستعير شجن كل مسيرة عبر التاريخ؛ لكي يخبر قصص جديدة.
بدأ نشيده كحزن خف وهادئ. انغماس في تلاعب الأوتار بشكل عابث؛ كأوراق خسراء سقطت في فضاء لا يعرف الزمن. فكيف استقبله أولئك الآباء والأمهات في بلاد الشام؟ كانوا يستدعون ذاكرة الأرض، ويروحون في رحلة متصلبة من الجذور إلى أطراف الغصون. قابلوا هذا التحدي بكبرياء لم يعهده أحد من قبل.
ولكن المسيرة استمرت، والنشيد اختار طرقات جديدة. عبر خطوات حثيثة انطلق إلى فلسطين المحتلة، حاملا شجاعة المقامات وأغاني التحدي. فهل سمع صدى نشيده في أرجاء غزة المعصفة بالأزمات؟ ربما! فإذ توالت الأزمات وتغير مجرى تاريخ الشعب، سافر نشيد موطن عبر التاريخ ليلتحق بعائلة جديدة من المقامات والأصوات.
ثم جاء دور سورية، تلك الأرض العتيقة التي حلمت بشهداء وثوار. انتشل نشيده من أعماق المأساة، لينزل رحابة الكلمات في أفق شامنا المعطاء. عانى صوته من قسوة السنوات، لكنه استمر في الصمود والتجدد. تجاوز حروبا ودمارا، فصار نشيدا لأرض مظلومة تستغيث.
إلى أن جاء يوم، يشبه طور سيناء في جلائله وجبال علا - مدينة خير الدين بربروس - هذا المكان حقق الحلم المستحيل؛ ألا وهو جعل نشيده يهاجر بلا خطابة ولا مصادفات إلى قلب كافة العرب. كان ذلك تحولا مفصليا في تاريخ هذا النشيد؛ فهو أصبح آية على شفتي التضامن.
الآن، إذ نغادر سطور هذه القصة، دعونا نسمع همس الأجيال التي ترتلها. فهو ليس مجرد نشيد وطني بل رمز يتعدى حدود الخرائط والجغرافيا. هو رسالة تحملها الأصوات المستذكرة والقلوب المشتاقة، لتروى قصة عن صبر شعب في أرض اختار أن يفخر بها.